فصل: تفسير الآيات رقم (38- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 37‏]‏

‏{‏قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏29‏)‏ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏30‏)‏ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ‏(‏32‏)‏ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ‏(‏33‏)‏ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ‏(‏36‏)‏ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ سَنَنظُرُ‏}‏ سنعرف من النظر بمعنى التأمل‏.‏ ‏{‏أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين‏}‏ أي أم كذبت والتغيير للمبالغة ومحافظة الفواصل‏.‏

‏{‏اذهب بّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ ثم تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه‏.‏ ‏{‏فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ‏}‏ ما يرجع بعضهم إلى بعض من القول‏.‏

‏{‏قَالَتْ‏}‏ أي بعد ما ألقى إليها‏.‏ ‏{‏يا أيها الملأ إِنّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ‏}‏ لكرم مضمونه أو مرسله، أو لأنه كان مختوماً أو لغرابة شأنه إذ كانت مستلقية في بيت مغلقة الأبواب فدخل الهدهد من كوة وألقاه على نحرها بحيث لم تشعر به‏.‏

‏{‏إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ‏}‏ استئناف كأنه قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه، أي إن الكتاب أو العنوان من سليمان ‏{‏وَإِنَّهُ‏}‏ أي وإن المكتوب أو المضمون‏.‏ وقرئ بالفتح على الإِبدال من ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ أو التعليل لكرمه‏.‏ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم‏}‏‏.‏

‏{‏أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ‏}‏ أن مفسرة أو مصدرية فتكون بصلتها خبر محذوف أي هو أو المقصود أن لا تعلوا أو بدل من ‏{‏كِتَابٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ‏}‏ مؤمنين أو منقادين، وهذا كلام في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود، لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الصانع تعالى وصفاته صريحاً أو التزاماً، والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل والأمر بالإِسلام الجامع لأمهات الفضائل، وليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلالة‏.‏

‏{‏قَالَتْ يا أيها الملأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي‏}‏ أجيبوني في أمري الفتي واذكروا ما تستصوبون فيه‏.‏ ‏{‏مَا كُنتُ قاطعة أَمْراً‏}‏ ما أبت أمراً‏.‏ ‏{‏حتى تَشْهَدُونِ‏}‏ إلا بمحضركم استعطفتهم بذلك ليمالئوها على الإِجابة‏.‏

‏{‏قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ‏}‏ بالأجساد والعدد‏.‏ ‏{‏وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ نجدة وشجاعة‏.‏ ‏{‏والأمر إِلَيْكِ‏}‏ موكول‏.‏ ‏{‏فانظرى مَاذَا تَأْمُرِينَ‏}‏ من المقاتلة أو الصلح نطعك ونتبع رأيك‏.‏

‏{‏قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً‏}‏ عنوة وغلبة‏.‏ ‏{‏أَفْسَدُوهَا‏}‏ تزييف لما أحست منهم من الميل إلى المقاتلة بادعائهم القوى الذاتية والعرضية، وإشعار بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان خططهم فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم، ثم أن الحرب سجال لا تدري عاقبتها‏.‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً‏}‏ بنهب أموالهم وتخريب ديارهم إلى غير ذلك من الإِهانة والأسر‏.‏ ‏{‏وكذلك يَفْعَلُونَ‏}‏ تأكيد لما وصفت من حالهم وتقرير بأن ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرة، أو تصديق لها من الله عز وجل‏.‏

‏{‏وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ‏}‏ بيان لما ترى تقديمه في المصالحة، والمعنى إني مرسلة رسلاً بهدية أدفعه بها عن ملكي‏.‏ ‏{‏فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون‏}‏ من حاله حتى أعمل بحسب ذلك‏.‏

روي أنها بعثت منذر بن عمرو في وفد وأرسلت معهم غلماناً على زي الجواري وجواري على زي الغلمان، وحُقاً فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وقالت‏:‏ إن كان نبياً ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقباً مستوياً وسلك في الخرزة خيطاً، فلما وصلوا إلى معسكره ورأوا عظمة شأنه تقاصرت إليهم نفوسهم، فلما وقفوا بين يديه وقد سبقهم جبريل بالحال فطلب الحق وأخبر عما فيه، فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأمر دودة بيضاء فأخذت الخيط ونفذت في الجزعة، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ‏}‏ أي الرسول أو ما أهدت إليه وقرئ «فلما جاؤوا»‏.‏ ‏{‏قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ‏}‏ خطاب للرسول ومن معه، أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب‏.‏ وقرأ حمزة ويعقوب بالإِدغام وقرئ بنون واحدة وبنونين وحذف الياء‏.‏ ‏{‏فَمَا ءاتانى الله‏}‏ من النبوة والملك الذي لا مزيد عليه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها وبإمالتها‏.‏ الكسائي وحده‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم‏}‏ فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي‏.‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ‏}‏ لأنكم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا فتفرحون بما يهدى إليكم حباً لزيادة أموالكم، أو بما تهدونه افتخاراً على أمثالكم، والإِضراب عن إنكار الإِمداد بالمال عليه وتقليله إلى بيان السبب الذي حملهم عليه، وهو قياس حاله على حالهم في قصور الهمة بالدنيا والزيادة فيها‏.‏

‏{‏اْرجِعِ‏}‏ أيها الرسول‏.‏ ‏{‏إِلَيْهِمُ‏}‏ إلى بلقيس وقومها‏.‏ ‏{‏فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا‏}‏ لا طاقة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وقرئ «بهم»‏.‏ ‏{‏وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا‏}‏ من سبأ‏.‏ ‏{‏أَذِلَّةً‏}‏ بذهاب ما كانوا فيه من العز‏.‏ ‏{‏وَهُمْ صاغرون‏}‏ أسراء مهانون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 44‏]‏

‏{‏قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ‏(‏39‏)‏ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏(‏40‏)‏ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏41‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ‏(‏42‏)‏ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏43‏)‏ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا‏}‏ أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله تعالى به من العجائب الدالة على عظم القدرة وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بأن ينكر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره‏؟‏‏.‏ ‏{‏قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ‏}‏ فإنها إذا أتت مسلمة لم يحل أخذه إلا برضاها‏.‏

‏{‏قَالَ عِفْرِيتٌ‏}‏ خبيث مارد‏.‏ ‏{‏مّن الجن‏}‏ بيان له لأنه يقال للرجل الخبيث المنكر المعفر أقرانه، وكان اسمه ذكوان أو صخراً‏.‏ ‏{‏أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ‏}‏ من مجلسك للحكومة وكان يجلس إلى نصف النهار‏.‏ ‏{‏وَإِنِّي عَلَيْهِ‏}‏ على حمله‏.‏ ‏{‏لَقَوِيٌّ أَمِينٌ‏}‏ لا أختزل منه شيئاً ولا أبدله‏.‏

‏{‏قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب‏}‏ آصف بن برخيا وزيره، أو الخضر أو جبريل عليهما السلام أو ملك أيده الله به، أو سليمان عليه السلام نفسه فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب في‏:‏ ‏{‏أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ‏}‏ للعفريت كأنه استبطأه فقال له ذلك، أو أراد إظهار معجزة في نقله فتحداهم أولاً ثم أراهم أنه يتأتى له مالاً يتأتى لعفاريت الجن فضلاً عن غيرهم، والمراد ب ‏{‏الكتاب‏}‏ جنس الكتب المنزلة أو اللوح، و‏{‏ءَاتِيكَ‏}‏ في الموضعين صالح للفعلية والاسمية، «والطرف» تحريك الأجفان للنظر فوضع موضعه ولما كان الناظر يوصف بإرسال الطرف كما في قوله‏:‏

وَكُنْت إِذَا أَرْسَلْت طَرْفَكَ رَائِدا *** لِقَلْبِكَ يَوْماً أَتْعَبَتْكَ المَنَاظِرُ

وصف برد الطرف والطرف بالارتداد، والمعنى أنك ترسل طرفك نحو شيء فقبل أن ترده أحضر عرشها بين يديك، وهذا غاية في الإِسراع ومثل فيه‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا رَءَاهُ‏}‏ أي العرش ‏{‏مُسْتَقِرّاً عِندَهُ‏}‏ حاصلاً بين يديه‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ تلقياً للنعمة بالشكر على شاكلة المخلصين من عباد الله تعالى ‏{‏هذا مِن فَضْلِ رَبّي‏}‏ تفضل به عليَّ من غير استحقاق، والإِشارة إلى التمكن من إحضار العرش في مدة إرتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه أو غيره، والكلام في إمكان مثله قد مر في آية «الإِسراء»‏.‏ ‏{‏لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ‏}‏ بأن أراه فضلاً من الله تعالى بلا حول مني ولا قوة وأقوم بحقه‏.‏ ‏{‏أَمْ أَكْفُرُ‏}‏ بأن أجد نفسي في البين، أو أقصر في أداء مواجبه ومحلها النصب على البدل من الياء‏.‏ ‏{‏وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ‏}‏ لأنه به يستجلب لها دوام النعمة ومزيدها ويحط عنها عبء الواجب ويحفظها عن وصمة الكفران‏.‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّي غَنِيٌّ‏}‏ عن شكره‏.‏ ‏{‏كَرِيمٌ‏}‏ بالإنعام عليه ثانياً‏.‏

‏{‏قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا‏}‏ بتغيير هيئته وشكله‏.‏ ‏{‏نَنظُرْ‏}‏ جواب الأمر، وقرئ بالرفع على الاستئناف‏.‏ ‏{‏أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ إلى معرفته أو الجواب الصواب، وقيل إلى الإِيمان بالله ورسوله إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليها الحراس‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ‏}‏ تشبيهاً عليها زيادة في امتحان عقلها إذ ذكرت عنده بسخافة العقل‏.‏ ‏{‏قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ‏}‏ ولم تقل هو لاحتمال أن يكون مثله وذلك من كمال عقلها‏.‏ ‏{‏وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ‏}‏ من تتمة كلامها كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها فقالت‏:‏ وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصحة نبوتك قبل هذه الحالة، أو المعجزة مما تقدم من الآيات‏.‏ وقيل إنه من كلام سليمان عليه السلام وقومه وعطفوه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله ورسوله حيث جوزت أن يكون ذلك عرشها تجويزاً غالباً، وإحضار ثمة من المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله تعالى ولا تظهر إلا على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أي وأوتينا العلم بالله وقدرته وصحة ما جاء به عنده قبلها وكنا منقادين لحكمه ولم نزل على دينه، ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم الله عليهم من التقدم في ذلك شكر الله تعالى‏.‏

‏{‏وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله‏}‏ أي وصدها عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإِسلام، أو وصدها الله عن عبادتها بالتوفيق للإِيمان‏.‏ ‏{‏إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين‏}‏ وقرئ بالفتح على الإِبدال من فاعل صدها على الأول، أي صدها نشؤها بين أظهر الكفار أو التعليل له‏.‏

‏{‏قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح‏}‏ القصر وقيل عرصة الدار‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا‏}‏ روي أنه أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من الزجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه، فلما أبصرته ظنته ماء راكداً فكشفت عن ساقيها‏.‏ وقرأ ابن كثير برواية قنبل «سأقيها» بالهمز حملاً على جمعه سؤوق وأسؤق‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّهُ‏}‏ إن ما تظنينه ماء‏.‏ ‏{‏صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ‏}‏ مملس‏.‏ ‏{‏مّن قَوارِيرَ‏}‏ من الزجاج‏.‏

‏{‏قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي‏}‏ بعبادتي الشمس، وقيل بظني بسليمان فإنها حسبت أنه يغرقها في اللجة‏.‏ ‏{‏وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ فيما أمر به عباده وقد، اختلف في أنه تزوجها أو زوجها من ذي تبع ملك همدان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 60‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏50‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏53‏)‏ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏54‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏55‏)‏ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏57‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏58‏)‏ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا أَنِ اعبدوا الله‏}‏ بأن اعبدوا الله، وقرئ بضم النون على اتباعها الباء‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ ففاجئوا التفرق والاختصام فآمن فريق وكفر فريق، والواو لمجموع الفريقين‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمٍ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة‏}‏ بالعقوبة فتقولون ائتنا بما تعدنا‏.‏ ‏{‏قَبْلَ الحسنة‏}‏ قبل التوبة فتؤخرونها إلى نزول العقاب فإنهم كانوا يقولون إن صدق إيعاده تبنا حينئذ‏.‏ ‏{‏لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله‏}‏ قبل نزوله‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ بقبولها فإنها لا تقبل حينئذ‏.‏

‏{‏قَالُواْ اطيرنا‏}‏ تشاءمنا‏.‏ ‏{‏بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ‏}‏ إِذ تتابعت علينا الشدائد، أو وقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم‏.‏ ‏{‏قَالَ طَائِرُكُمْ‏}‏ سببكم الذي جاء منه شركم‏.‏ ‏{‏عَندَ الله‏}‏ وهو قدره أو عملكم المكتوب عنده‏.‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ‏}‏ تختبرون بتعاقب السراء والضراء، والإِضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه‏.‏

‏{‏وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ‏}‏ تسعة أنفس، وإنما تمييزاً للتسعة باعتبار المعنى، والفرق بينه وبين النفر أنه من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة، والنفر من الثلاثة إلى التسعة‏.‏ ‏{‏يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ‏}‏ أي شأنهم الإِفساد الخالص عن شوب الصلاح‏.‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي قال بعضهم لبعض‏.‏ ‏{‏تَقَاسَمُواْ بالله‏}‏ أمر مقول أو خبر وقع بدلاً أو حالاً بإضمار قد‏.‏ ‏{‏لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ‏}‏ لنباغتن صالحاً وأهله ليلاً‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على خطاب بعضهم لبعض، وقرئ بالياء على أن تقاسموا خبر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَقُولَنَّ‏}‏ فيه القراءات الثلاث‏.‏ ‏{‏لِوَلِيِّهِ‏}‏ لولي دمه‏.‏ ‏{‏مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ‏}‏ فضلاً أن تولينا إهلاكهم، وهو يحتمل المصدر والزمان والمكان وكذا»مُهْلِكَ«في قراءة حفص فإن مفعلاً قد جاء مصدراً كمرجع‏.‏ وقرأ أبو بكر بالفتح فيكون مصدراً‏.‏ ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ ونحلف إنا لصادقون، أو والحال ‏{‏إِنَّا لصادقون‏}‏ فيما ذكرنا لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفاً، أو لأنا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رأيت ثمة رجلاً بل رجلين‏.‏

‏{‏وَمَكَرُواْ مَكْراً‏}‏ بهذه المواضعة‏.‏ ‏{‏وَمَكَرْنَا مَكْراً‏}‏ بأن جعلناها سبباً لإِهلاكهم‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بذلك، روي أنه كان لصالح في الحجر مسجد في شعب يصلي فيه فقالوا‏:‏ زعم أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه، فوقع عليهم صخرة حيالهم فطبقت عليهم فم الشعب فهلكوا ثمة وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة كما أشار إليه قوله‏:‏

‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ أَنَّا دمرناهم وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ و‏{‏كَانَ‏}‏ إن جعلت ناقصة فخبرها ‏{‏كَيْفَ‏}‏ و‏{‏أَنَّا دمرناهم‏}‏ استئناف أو خبر محذوف لا خبر ‏{‏كَانَ‏}‏ لعدم العائد، وإن جعلتها تامة ف ‏{‏كَيْفَ‏}‏ حال‏.‏ وقرأ الكوفيون ويعقوب ‏{‏أَنَّا دمرناهم‏}‏ بالفتح على أنه خبر محذوف أو بدل من اسم ‏{‏كَانَ‏}‏ أو خبر له و‏{‏كَيْفَ‏}‏ حال‏.‏

‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً‏}‏ خالية من خوى البطن إذا خلا، أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط، وهي حال عمل فيها معنى الإِشارة‏.‏ وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف‏.‏ ‏{‏بِمَا ظَلَمُواْ‏}‏ بسبب ظلمهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ فيتعظون‏.‏

‏{‏وَأَنجَيْنَا الذين ءَامَنُواْ‏}‏ صالحاً ومن معه‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ الكفر والمعاصي فلذلك خصوا بالنجاة‏.‏

‏{‏وَلُوطاً‏}‏ واذكر لوطاً، أو وأرسلنا لوطاً لدلالة ولقد أرسلنا عليه‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏ بدل على الأول وظرف على الثاني‏.‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ تعلمون فحشها من بصر القلب واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا يعلنون بها فتكون أفحش‏.‏

‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً‏}‏ بيان لإتيانهم الفاحشة وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه، والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل لاقضاء الوطر‏.‏ ‏{‏مّن دُونِ النساء‏}‏ اللاتي خلقن لذلك‏.‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ تفعلون فعل من يجهل قبحها، أو يكون سفيهاً لا يميز بين الحسن والقبيح، أو تجهلون العاقبة والتاء فيه لكون الموصوف به في معنى المخاطب‏.‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ أي يتنزهون عن أفعالنا، أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذراً‏.‏

‏{‏فأنجيناه وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قدرناها مِنَ الغابرين‏}‏ قدرنا كونها من الباقين في العذاب‏.‏

‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ المنذرين‏}‏ مر مثله‏.‏

‏{‏قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى‏}‏ أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعدما قص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظم شأنه وما خص به رسله من الآيات الكبرى والانتصار من العدا بتحميده والسلام على المصطفين من عباده شكراً على ما أنعم عليهم، أو علمه ما جهل من أحوالهم وعرفاناً لفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم في الدين، أو لوطاً بأن يحمده على هلاك كفرة قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك‏.‏ ‏{‏الله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ إلزام لهم وتهكم بهم وتسفيه لرأيهم، إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه رأساً حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير‏.‏ وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتاء‏.‏

‏{‏أَمَّن‏}‏ بل أمن‏.‏ ‏{‏خَلَقَ السموات والأرض‏}‏ التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع‏.‏ وقرأ أمن بالتخفيف على أنه بدل من الله‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُمْ‏}‏ لأجلكم‏.‏ ‏{‏مِّنَ السماء مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ‏}‏ عدل به من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته، والتنبيه على أن إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا‏}‏ شجر الحدائق وهي البساتين من الإحداق وهو الإِحاطة‏.‏ ‏{‏أَءِلَهٌ مَّعَ الله‏}‏ أغيره يقرن به ويجعل له شريكاً، وهو المنفرد بالخلق والتكوين‏.‏ وقرئ «أإلهاً» بإضمار فعل مثل أتدعون أو أتشركون وبتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين‏.‏ ‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ‏}‏ عن الحق الذي هو التوحيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 70‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏ أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏ أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏63‏)‏ أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ‏(‏66‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ‏(‏67‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏69‏)‏ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً‏}‏ بدل من ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السموات‏}‏ وجعلها قراراً بإبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يتأتى استقرار الإِنسان والدواب عليها‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ خِلاَلَهَا‏}‏ وسطها‏.‏ ‏{‏أَنْهَاراً‏}‏ جارية‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ‏}‏ جبالاً تتكون فيها المعادن وتنبع من حضيضها المنابع‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين‏}‏ العذب والمالح، أو خليجي فارس والروم‏.‏ ‏{‏حَاجِزاً‏}‏ برزخاً وقد مر بيانه في سورة «الفرقان»‏.‏ ‏{‏أََءِلَهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ الحق فيشركون به‏.‏

‏{‏أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ‏}‏ المضطر الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجوء إلى الله تعالى من الاضطرار، وهو إفتعال من الضرورة واللام فيه للجنس لا للاستغراق فلا يلزم منه إجابة كل مضطر‏.‏ ‏{‏وَيَكْشِفُ السوء‏}‏ ويدفع عن الإِنسان ما يسوءه‏.‏ ‏{‏وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض‏}‏ خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم‏.‏ ‏{‏أََءِلَهٌ مَّعَ الله‏}‏ الذي خصكم بهذه النعم العامة والخاصة‏.‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي تذكرون آلاءه تذكراً قليلاً، وما مزيدة والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المزيحة للفائدة‏.‏ وقرأ أبو عمرو وهشام وروح بالياء وحمزة والكسائي وحفص بالتاء وتخفيف الذال‏.‏

‏{‏أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظلمات البر والبحر‏}‏ بالنجوم وعلامات الأرض، وال ‏{‏ظلمات‏}‏ ظلمات الليالي وإضافتها إلى ‏{‏البر والبحر‏}‏ للملابسة، أو مشتبهات الطرق يقال طريقة ظلماء وعمياء للتي لا منار بها‏.‏ ‏{‏وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ يعني المطر، ولو صح أن السبب الأكثر في تكون الرياح معاودة الأدخنة الصاعدة من الطبقة الباردة لإِنكسار حرها وتمويجها الهواء فلا شك أن الأسباب الفاعلية والقابلية لذلك من خلق الله تعالى، والفاعل للسبب فعل المسبب‏.‏ ‏{‏أَءِلَهٌ مَّعَ الله‏}‏ يقدر على مثل ذلك‏.‏ ‏{‏تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ تعالى الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق‏.‏

‏{‏أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ‏}‏ والكفرة وإن أنكروا الإِعادة فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها‏.‏ ‏{‏وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السماء والأرض‏}‏ أي بأسباب سماوية وأرضية‏.‏ ‏{‏أَءِلَهٌ مَّعَ الله‏}‏ يفعل ذلك‏.‏ ‏{‏قُلْ هَاتُواْ برهانكم‏}‏ على أن غيره يقدر على شيء من ذلك‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في إشراككم فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية‏.‏

‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله‏}‏ لما بين اختصاصه تعالى بالقدرة التامة الفائقة العامة أتبعه ما هو كاللازم له، وهو التفرد بعلم الغيب والاستثناء منقطع، ورفع المستثنى على اللغة التميمية للدلالة على أنه تعالى إن كان ممن في السموات والأرض ففيها من يعلم الغيب مبالغة في نفيه عنهم، أو متصل على أن المراد ممن في السموات والأرض من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها، فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه وهو موصول أو موصوف‏.‏

‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ متى ينشرون مركبة من «أي» «وآن»، وقرئت بكسر الهمزة والضمير لمن وقيل للكفرة‏.‏

‏{‏بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة‏}‏ لما نفى عنهم علم الغيب وأكد ذلك ينفي شعورهم بما هو مآلهم لا محالة بالغة فيه، بأن أضرب عنه وبين أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والآيات وهو أن القيامة كائنة لا محالة لا يعلمونه كما ينبغي‏.‏ ‏{‏بَلْ هُمْ فِي شَكّ مّنْهَا‏}‏ كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلاً‏.‏ ‏{‏بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ‏}‏ لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم، وهذا وإن اختص بالمشركين ممن في السموات والأرض نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل، والإِضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم، وقيل الأول إضراب عن نفي الشعور بوقت القيامة عنهم إلى وصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكماً بهم، وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص»بَلِ أَدْرَاكَ«بمعنى تتابع حتى استحكم، أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك، وأبو بكر «أدرك» وأصلهما تفاعل وافتعل‏.‏ وقرئ «أأدرك» بهمزتين «وآأدرك» بألف بينهما و«بل أدرك» و«بل تدارك» و«بلى أأدرك» و«بلى أأدرك» و«أم إدراك» أو «تدارك»، وما فيه استفهام صريح أو مضمن من ذلك فإنكار وما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإِدراك على التهكم، وما بعده إضراب عن التفسير مبالغة في نفيه ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها ‏{‏بَلِ‏}‏ إنهم ‏{‏مّنْهَا عَمُونَ‏}‏ أوْ رَدَّ وإنكار لشعورهم‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَاؤُنَا أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ‏}‏ كالبيان لعمههم والعامل في إذا ما دل عليه ‏{‏أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ‏}‏، وهو نخرج لا مخرجون لأن كلاً من الهمزة وإن واللام مانعة من عمله فيما قبلها، وتكرير الهمزة للمبالغة في الإِنكار، والمراد بالإِخراج الإِخراج من الأجداث أو من حال الفناء إلى الحياة، وقرأ نافع «إذا كنا» بهمزة واحدة مكسورة، وقرأ ابن عامر والكسائي «إننا لمخرجون» بنونين على الخبر‏.‏

‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَاَ مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل وعد محمد صلى الله عليه وسلم، وتقديم هذا على نحن لأن المقصود بالذكر هو البعث وحيث أخر فالمقصود به المبعوث‏.‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ التي هي كالأسمار‏.‏

‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين‏}‏ تهديد لهم على التكذيب وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم، والتعبير عنهم ب ‏{‏المجرمين‏}‏ ليكون لطفاً بالمؤمنين في ترك الجرائم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ على تكذبيهم وإعراضهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ‏}‏ في حرج صدر، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد وهما لغتان، وقرئ ضيق أي أمر ضيق‏.‏ ‏{‏مّمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ من مكرهم فإن الله يعصمك من الناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 86‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏74‏)‏ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏75‏)‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏76‏)‏ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ‏(‏79‏)‏ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏80‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ‏(‏82‏)‏ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ العذاب الموعود‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم‏}‏ تبعكم ولحقكم، واللام مزيدة للتأكيد أو الفعل مضمن معنى فعل بتعدي باللام مثل دنا‏.‏ وقرئ بالفتح وهو لغة فيه‏.‏ ‏{‏بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ حلوله وهو عذاب يوم بدر، وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونها إظهاراً لوقارهم وإشعاراً بأن الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله تعالى ووعيده‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏ لتأخير عقوبتهم على المعاصي، والفضل والفاضلة الأفضال وجميعها فضول وفواضل‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه بل يستعجلون بجهلهم وقوعه‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ‏}‏ ما تخفيه وقرئ بفتح التاء من كننت أي سترت‏.‏ ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ من عداوتك فيجازيهم عليه‏.‏

‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السماء والأرض‏}‏ خافية فيهما، وهما من الصفات الغالبة والتاء فيهما للمبالغة كما في الراوية، أو اسمان لما يغيب ويخفى كالتاء في عافية وعاقبة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ‏}‏ بين أو ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ ما فيه لما يطالعه، والمراد اللوح أو القضاء على الاستعارة‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِي إسراءيل أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ‏}‏ فإنهم المنتفعون به‏.‏

‏{‏إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم‏}‏ بين بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏بِحُكْمِهِ‏}‏ بما يحكم به وهو الحق، بحكمته ويدل عليه أنه قرئ بحكمه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ فلا يرد قضاؤه‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بحقيقة ما يقضى فيه، وحكمه‏.‏

‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ ولا تبال بمعاداتهم‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ عَلَى الحق المبين‏}‏ وصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله ونصره‏.‏

‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ تعليل اخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طعمه عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأساً، وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُسْمِعُ الصم إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ‏}‏ فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏وَلاَ يَسْمَعُ الصم‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضلالتهم‏}‏ حيث الهداية لا تحصل إلا بالبصر‏.‏ وقرأ حمزة وحده «وما أنت تهدي العمي»‏.‏ ‏{‏إِن تُسْمِعُ‏}‏ أي ما يجدي إسماعك‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بئاياتنا‏}‏ من هو في علم الله كذلك‏.‏ ‏{‏فَهُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ مخلصون من أسلم وجهه لله‏.‏

‏{‏وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم‏}‏ إذا دنا وقوع معناه وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب‏.‏ ‏{‏أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأرض‏}‏ وهي الجساسة روي أن طولها ستون ذراعاً ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان، لا يفوتها هارب ولا يدركها طالب‏.‏ وروي أنه عليه الصلاة والسلام سئل من أين مخرجها فقال‏:‏

«من أعظم المساجد حرمة على الله، يعني المسجد الحرام»‏.‏ ‏{‏تُكَلِّمُهُمْ‏}‏ من الكلام، وقيل من الكلم إذ قرئ ‏{‏تُكَلّمُهُمْ‏}‏‏.‏ وروي أنها تخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما الصلاة والسلام، فتنكت بالعصا في مسجد المؤمن نكتة بيضاء فيبيض وجهه، وبالخاتم في أنف الكافر نكتة سوداء فيسود وجهه‏.‏ ‏{‏أَنَّ النَّاسَ كَانُواْ بِئَايَاتِنَا‏}‏ خروجها وسائر أحوالها فإنها من آيات الله تعالى‏.‏ وقيل القرآن، وقرأ الكوفيون أن الناس بالفتح‏.‏ ‏{‏لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ لا يتيقنون، وهو حكاية معنى قولها أو حكايتها لقول الله عز وجل أو علة خروجها، أو تكلمها على حذف الجار‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً‏}‏ يعني يوم القيامة‏.‏ ‏{‏مّمَّن يُكَذّبُ بئاياتنا‏}‏ بيان للفوج أي فوجاً مكذبين، و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى للتبعيض لأن أمة كل نبي وأهل كل قرن شامل للمصدقين والمكذبين‏.‏ ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، وهو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم‏.‏

‏{‏حتى إِذَا جَاءوا‏}‏ إلى المحشر‏.‏ ‏{‏قَالَ أَكَذَّبْتُم بئاياتي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً‏}‏ الواو للحال أي أكذبتم بها بادئ الرأي غير ناظرين فيها نظراً يحيط علمكم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب، أو للعطف أي أجمعتم بين التكذيب بها وعدم إلقاء الأذهان لتحققها‏.‏ ‏{‏أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك، وهو للتبكيت إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون أن يقولوا فعلنا غير ذلك‏.‏

‏{‏وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم‏}‏ حل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار بعد ذلك‏.‏ ‏{‏بِمَا ظَلَمُواْ‏}‏ بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ‏}‏ باعتذار لشغلهم بالعذاب‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ ليتحقق لهم التوحيد ويرشدهم إلى تجويز الحشر وبعثة الرسل، لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهر، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان، وأن من جعل النهار ليبصروا فيه سبباً من أسباب معاشهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم‏.‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ بالنوم والقرار‏.‏ ‏{‏والنهار مُبْصِراً‏}‏ فإن أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه بجعل الإِبصار حالاً من أحواله المجعول عليها بحيث لا ينفك عنها‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لدلالتها على الأمور الثلاثة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 93‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏92‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور‏}‏ في الصور أو القرن، وقيل إنه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق‏.‏ ‏{‏فَفَزِعَ مَن فِي السموات وَمَن فِي الأرض‏}‏ من الهول وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَن شَاء الله‏}‏ أن لا يفزع بأن يثبت قلبه‏.‏ قيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل‏.‏ وقيل الحور والخزنة وحملة العرش، وقيل الشهداء، وقيل موسى عليه الصلاة والسلام لأنه صعق مرة ولعل المراد ما يعم ذلك‏.‏ ‏{‏وَكُلٌّ أَتَوْهُ‏}‏ حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية، أو راجعون إلى أمره وقرأ حمزة وحفص ‏{‏أَتَوْهُ‏}‏ على الفعل، وقرئ «أتاه» على التوحيد للفظ الكل‏.‏ ‏{‏داخرين‏}‏ صاغرين وقرئ «دخرين»‏.‏

‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً‏}‏ ثابتة في مكانها‏.‏ ‏{‏وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب‏}‏ في السرعة، وذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد تبين حركتها‏.‏ ‏{‏صُنْعَ الله‏}‏ مصدر مؤكد لنفسه وهو لمضمون الجملة المتقدمة كقوله ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ ‏{‏الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ‏}‏ عالم بظواهر الأفعال وبواطنها فيجازيكم عليها كما قال‏:‏

‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ إذ ثبت له الشريف بالخسيس والباقي بالفاني وسبعمائة بواحدة، وقيل ‏{‏خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ أي خير حاصل من جهتها وهو الجنة، وقرأ ابن كثير وأبو عمر وهشام»خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُونَ«بالياء والباقون بالتاء‏.‏ ‏{‏وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ‏}‏ يعني به خوف عذاب يوم القيامة، وبالأول ما يلحق الإِنسان من التهيب لما يرى من الأهوال والعظائم لذلك يعم الكافر والمؤمن، وقرأ الكوفيون بالتنوين لأن المراد فزع واحد من أفزاع ذلك اليوم، وآمن يتعدى بالجار وبنفسه كقوله ‏{‏أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله‏}‏ وقرأ الكوفيون ونافع ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ بفتح الميم والباقون بكسرها‏.‏

‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة‏}‏ قيل بالشرك‏.‏ ‏{‏فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار‏}‏ فكبوا فيها على وجوههم، ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم كما أريدت بالأيدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ ‏{‏هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ على الالتفات أو بإضمار القول أي قيل لهم ذلك‏.‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا‏}‏ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ذلك بعدما بين المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة، إشعاراً بأنه قد أتم الدعوة وقد كملت وما عليه بعد إلا الاشتغال بشأنه والاستغراق في عبادة ربه، وتخصيص مكة بهذه الإِضافة تشريف لها وتعظيم لشأنها وقرئ «التي حرمها»‏.‏ ‏{‏وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ‏}‏ خلقاً وملكاً‏.‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين‏}‏ المنقادين أو الثابتين على ملة الإِسلام‏.‏

‏{‏وَأَنْ أَتْلُوَ القرءان‏}‏ وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئاً فشيئاً، أو اتباعه وقرئ «واتل عليهم» «وأن أتل»‏.‏ ‏{‏فَمَنُ اهتدى‏}‏ باتباعه إياي في ذلك، ‏{‏فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ‏}‏ فإن منافعه عائدة إليه‏.‏

‏{‏وَمَن ضَلَّ‏}‏ بمخالفتي‏.‏ ‏{‏فَقُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين‏}‏ فلا علي من وبال ضلاله شيء إذ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغت‏.‏

‏{‏وَقُلِ الحمد لِلَّهِ‏}‏ على نعمة النبوة أو على ما علمني ووفقني للعمل به‏.‏ ‏{‏سَيُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ القاهرة في الدنيا كوقعة بدر وخروج دابة الأرض، أو في الآخرة‏.‏ ‏{‏فَتَعْرِفُونَهَا‏}‏ أنها آيات الله ولكن حين لا تنفعكم المعرفة‏.‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالياء‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة طس كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهوداً وصالحاً وإبراهيم وشعيباً، ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله»‏.‏

سورة القصص

مكية وقيل إلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لا نبتغي الجاهلين‏}‏ وهي ثمان وثمانون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏4‏)‏ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ‏(‏5‏)‏ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ‏(‏6‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏7‏)‏ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏طسم‏}‏‏.‏

‏{‏تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين‏}‏‏.‏

‏{‏نَتْلُو عَلَيْكَ‏}‏ نقرؤه بقراءة جبريل، ويجوز أن يكون بمعنى ننزله مجازاً‏.‏ ‏{‏مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ‏}‏ بعض نبئهما مفعول ‏{‏نتلو‏}‏‏.‏ ‏{‏بالحق‏}‏ محقين‏.‏ ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لأنهم المنتفعون به‏.‏

‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الارض‏}‏ استئناف «مبين» لذلك البعض، والأرض أرض مصر‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً‏}‏ فرقاً يشيعونه فيما يريد، أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته أو أصنافاً في استخدامه استعمل كل صنف في عمل، أو أحزاباً بأن أغرى بينهم العداوة كي لا يتفقوا عليه‏.‏ ‏{‏يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ‏}‏ وهم بنو إسرائيل، والجملة حال من فاعل ‏{‏جَعَلَ‏}‏ أو صفة ل ‏{‏شِيَعاً‏}‏ أو استئناف، وقوله‏:‏ ‏{‏يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ‏}‏ بدل منها، كان ذلك لأن كاهناً قال له يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده، وذلك كان من غاية حمقه فإنه لو صدق لم يندفع بالقتل وإن كذب فما وجهه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين‏}‏ فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد‏.‏

‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض‏}‏ أن نتفضل عليهم بإنقاذهم من بأسه، ‏{‏وَنُرِيدُ‏}‏ حكاية حال ماضية معطوفة على ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض‏}‏ من حيث إنهما واقعان تفسير لل ‏{‏نَبَأَ‏}‏، أو حال من ‏{‏يَسْتَضْعِفُ‏}‏ ولا يلزم من مقارنة الإِرادة للاستضعاف مقارنة المراد له، لجواز أن يكون تعلق الإِرادة به حينئذ تعلقاً استقبالياً مع أن منة الله بخلاصهم لما كانت قريبة الوقوع منه جاز أن تجري مجرى المقارن‏.‏ ‏{‏وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً‏}‏ مقدمين في أمر الدين‏.‏ ‏{‏وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين‏}‏ لما كان في ملك فرعون وقومه‏.‏

‏{‏وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الأرض‏}‏ أرض مصر والشام، وأصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعير للتسليط‏.‏ وإِطلاق الأمن‏.‏ ‏{‏وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ‏}‏ من بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ‏}‏ من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏ويري‏}‏ بالياء و‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا‏}‏ بالرفع‏.‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى‏}‏ بإلهام أو رؤيا‏.‏ ‏{‏أَنْ أَرْضِعِيهِ‏}‏ ما أمكنك إخفاؤه‏.‏ ‏{‏فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ‏}‏ بأن يحس به‏.‏ ‏{‏فَأَلْقِيهِ فِى اليم‏}‏ في البحر يريد النيل‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَخَافِى‏}‏ عليه ضيعة ولا شدة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنِى‏}‏ لفراقه‏.‏ ‏{‏إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ‏}‏ عن قريب بحيث تأمنين عليه‏.‏ ‏{‏وجاعلوه مِنَ المرسلين‏}‏ روي أنها لما ضر بها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها، فلما وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعشت مفاصلها ودخل حبه في قلبها بحيث منعها من السعاية، فأرضعته ثلاثة أشهر ثم ألح فرعون في طلب المواليد واجتهد العيون في تفحصها فأخذت له تابوتاً فقذفته في النيل‏.‏

‏{‏فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ تعليل لالتقاطهم إياه بما هو عاقبته ومؤداه تشبيهاً له بالغرض الحامل عليه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏وَحَزَناً‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين‏}‏ في كل شيء فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفاً لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون، أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم، فالجملة اعتراض لتأكيد خطئهم أو لبيان الموجب لما ابتلوا به، وقرئ «خاطين» تخفيف ‏{‏خاطئين‏}‏ أو «خاطين» الصواب إلى الخطأ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 20‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ‏(‏12‏)‏ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏16‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ‏(‏17‏)‏ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏19‏)‏ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَتِ امرأت فِرْعَوْنَ‏}‏ أي لفرعون حين أخرجته من التابوت‏.‏ ‏{‏قُرَّتُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ‏}‏ هو قرة عين لنا لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه، أو لأنه كانت له ابنة برصاء وعالجها الأطباء بريق حيوان بحري يشبه الإِنسان فلطخت برصها بريقه فبرئت، وفي الحديث أنه قال‏:‏ لك لا لي‏.‏ ولو قال هو لي كما هو لك لهداه الله كما هداها‏.‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُوهُ‏}‏ خطاب بلفظ الجمع للتعظيم‏.‏ ‏{‏عسى أَن يَنفَعَنَا‏}‏ فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع، وذلك لما رأت من نور بين عينيه وارتضاعه إبهامه لبناً وبرء البرصاء بريقه‏.‏ ‏{‏أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا‏}‏ أو نتبناه فإنه أهل له‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ حال من الملتقطين أو من القائلة والمقول له أي وهم لا يشعرون أنهم على الخطأ في التقاطه أو في طمع النفع منه والتبني له، أو من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس أي ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ أنه لغيرنا وقد تبنيناه‏.‏

‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً‏}‏ صفراً من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء‏}‏ أي خلاء لا عقول فيها، ويؤيده أنه قرئ «فرغاً» من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر، أو من الهم لفرط وثوقها بوعد الله تعالى أو سماعها أن فرعون عطف عليه وتبناه‏.‏ ‏{‏إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ‏}‏ أنها كادت لتظهر بموسى أي بأمره وقصته من فرط الضجر أو الفرح لتبنيه‏.‏ ‏{‏لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا‏}‏ بالصبر والثبات‏.‏ ‏{‏لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ من المصدقين بوعد الله، أو من الواثقين بحفظه لا بتبني فرعون وعطفه‏.‏ وقرئ موسى إجراء للضمة في جوار الواو مجرى ضمتها في استدعاء همزها همز واو وجوه وهو علة الربط، وجواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ محذوف دل عليه ما قبله‏.‏

‏{‏وَقَالَتْ لأُخْتِهِ‏}‏ مريم‏.‏ ‏{‏قُصّيهِ‏}‏ اتبعي أثره وتتبعي خبره‏.‏ ‏{‏فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ‏}‏ عن بعد وقرئ «عن جانب» «وعن جنب» وهو بمعناه‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ أنها تقص أو أنها أخته‏.‏

‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع‏}‏ ومنعناه أن يرتضع من المرضعات، جمع مرضع أو مرضع وهو الرضاع، أو موضعه يعني الثدي‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل قصها أثره‏.‏ ‏{‏فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ‏}‏ لأجلكم‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لَهُ ناصحون‏}‏ لا يقصرون في إرضاعه وتربيته، روي أن هامان لما سمعه قال‏:‏ إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله، فقالت‏:‏ إنما أردت وهم للملك ناصحون، فأمرها فرعون أن تأتي بمن يكفله فأتت بأمها وموسى على يد فرعون يبكي وهو يعلله، فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال لها‏:‏ من أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك‏؟‏ فقالت‏:‏ إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وأجرى عليها، فرجعت به إلى بيتها من يومها، وهو قوله تعالى‏:‏

‏{‏فرددناه إلى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا‏}‏ بولدها‏.‏

‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ‏}‏ بفراقه‏.‏ ‏{‏وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ علم مشاهدة‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن وعده حق فيرتابون فيه، أو أن الغرض الأصلي من الرد علمها بذلك وما سواه تبع، وفيه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون‏.‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ مبلغه الذي لا يزيد عليه نشؤه وذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة فإن العقل يكمل حينئذ‏.‏ وروي أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين سنة‏.‏ ‏{‏واستوى‏}‏ قده أو عقله‏.‏ ‏{‏آتَيْنَاهُ حُكْمًا‏}‏ أي نبوة‏.‏ ‏{‏وَعِلْماً‏}‏ بالدين، أو علم الحكماء والعلماء وسمتهم قبل استنبائه، فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه، وهو أوفق لنظم القصة لأن الاستنباء بعد الهجرة في المراجعة‏.‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه‏.‏ ‏{‏نَجْزِى المحسنين‏}‏ على إحسانهم‏.‏

‏{‏وَدَخَلَ المدينة‏}‏ ودخل مصر آتياً من قصر فرعون وقيل منف أو حائين، أو عين شمس من نواحيها‏.‏ ‏{‏على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ في وقت لا يعتاد دخولها ولا يتوقعونه فيه، قيل كان وقت القيلولة وقيل بين العشاءين‏.‏ ‏{‏فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوّهِ‏}‏ أحدهما ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل والآخر من مخالفيه وهم القبط، والإِشارة على الحكاية‏.‏ ‏{‏فاستغاثه الذى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذى‏}‏ هو ‏{‏مِنْ عَدُوّهِ‏}‏ فسأله أن يغيثه بالإِعانة ولذلك عدى ب ‏{‏على‏}‏ وقرئ «استعانه»‏.‏ ‏{‏فَوَكَزَهُ موسى‏}‏ فضرب القبطي بجمع كفه، وقرئ فلكزه أي فضرب به صدره‏.‏ ‏{‏فقضى عَلَيْهِ‏}‏ فقتله وأصله فأنهى حياته من قوله ‏{‏وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر‏}‏ ‏{‏قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان‏}‏ لأنه لم يؤمر بقتل الكفار أو لأنه كان مأموناً فيهم فلم يكن له اغتيالهم، ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ، وإنما عده من عمل الشيطان وسماه ظلماً واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر العداوة‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى‏}‏ بقتله‏.‏ ‏{‏فاغفر لِى‏}‏ ذنبي‏.‏ ‏{‏فَغَفَرَ لَهُ‏}‏ لاستغفاره‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الغفور‏}‏ لذنوب عباده‏.‏ ‏{‏الرحيم‏}‏ بهم‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ‏}‏ قسم محذوف الجواب أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن‏.‏ ‏{‏فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ‏}‏ أو استعطاف أي بحق إنعامك على أعصمني فلن أكون معيناً لمن أدت معاونته إلى جرم‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أنه لم يستثن فابتلي به مرة أخرى، وقيل معناه بما أنعمت علي من القوة أعين أولياءك فلن أستعملها في مظاهرة أعدائك‏.‏

‏{‏فَأَصْبَحَ فِى المدينة خَائِفاً يَتَرَقَّبُ‏}‏ يترقب الاستقادة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا الذى استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ‏}‏ يستغيثه مشتق من الصراخ‏.‏

‏{‏قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ‏}‏ بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا‏}‏ لموسى والإِسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأن القبط كانوا أعداء لبني إسرائيل‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا موسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس‏}‏ قاله الإِسرائيلي لأنه لما سماه غوياً ظن أنه يبطش عليه، أو القبطي وكأنه توهم من قوله أنه الذي قتل القبطي بالأمس لهذا الإسرائيلي‏.‏ ‏{‏إِن تُرِيدُ‏}‏ ما تريد‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الأرض‏}‏ تطاول على الناس ولا تنظر في العواقب‏.‏ ‏{‏وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين‏}‏ بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه وهموا بقتله فخرج مؤمن آل فرعون وهو ابن عمه ليخبره كما قال تعالى‏:‏

‏{‏وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى‏}‏ يسرع صفة رجل، أو حال منه إذا جعل من أقصى المدينة صفة له لا صلة لجاء لأن تخصيصه بها يلحقه بالمعارف‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا موسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ‏}‏ يتشاورون بسببك، وإنما سمي التشاور ائتماراً لأن كلاً من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر‏.‏ ‏{‏فاخرج إِنّى لَكَ مِنَ الناصحين‏}‏ اللام للبيان وليس صلة ل ‏{‏الناصحين‏}‏ لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 30‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏22‏)‏ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ‏(‏23‏)‏ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ‏(‏24‏)‏ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏28‏)‏ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏فَخَرَجَ مِنْهَا‏}‏ من المدينة‏.‏ ‏{‏خَائِفاً يَتَرَقَّبُ‏}‏ لحوق طالب‏.‏ ‏{‏قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ القوم الظالمين‏}‏ خلصني منهم واحفظني من لحوقهم‏.‏

‏{‏وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ‏}‏ قبالة مدين قرية شعيب، سميت باسم مدين بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ولم تكن في سلطان فرعون وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان‏.‏ ‏{‏قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل‏}‏ توكلاً على الله وحسن ظن به، وكان لا يعرف الطريق فعن له ثلاث طرق فأخذ في أوسطها وجاء الطلاب عقيبه فأخذوا في الآخرين‏.‏

‏{‏وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ‏}‏ وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها‏.‏ ‏{‏وَجَدَ عَلَيْهِ‏}‏ وجد فوق شفيرها‏.‏ ‏{‏أُمَّةً مّنَ الناس‏}‏ جماعة كثيرة مختلفين‏.‏ ‏{‏يُسْقَوْنَ‏}‏ مواشيهم‏.‏ ‏{‏وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ‏}‏ في مكان أسفل من مكانهم‏.‏ ‏{‏امرأتين تَذُودَانِ‏}‏ تمنعان أغنامهما عن الماء لئلا تختلط بأغنامهم‏.‏ ‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُمَا‏}‏ ما شأنكما تذودان‏.‏ ‏{‏قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء‏}‏ تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذراً عن مزاحمة الرجال، وحذف المفعول لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما ويدعوه إلى السقي لهما ثم دونه‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن عامر»يُصْدِرَ«أي ينصرف‏.‏ وقرئ» الرعاء«بالضم وهو اسم جمع كالرخال‏.‏ ‏{‏وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ‏}‏ كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي فيرسلنا اضطراراً‏.‏

‏{‏فسقى لَهُمَا‏}‏ مواشيهما رحمة عليهما‏.‏ قيل كانت الرعاة يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلا سبعة رجال أو أكثر فأقله وحده مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم، وقيل كانت بئراً أخرى عليها صخرة فرفعها واستقى منها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ‏}‏ لأي شيء أنزلت إلي‏.‏ ‏{‏مّنْ خَيْرٍ‏}‏ قليل أو كثير وحمله الأكثرون على الطعام‏.‏ ‏{‏فَقِيرٌ‏}‏ محتاج سائل ولذلك عدى باللام، وقيل معناه إني لما أنزلت إلى من خير الدين صرت فقيراً في الدنيا، لأنه كان في سعة عند فرعون والغرض منه إظهار التبجح والشكر على ذلك‏.‏

‏{‏فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء‏}‏ أي مستحيية متخفرة‏.‏ قيل كانت الصغرى منهما وقيل الكبرى واسمها صفوراء أو صفراء وهي التي تزوجها موسى عليه اسلام‏.‏ ‏{‏قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ‏}‏ ليكافئك‏.‏ ‏{‏أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا‏}‏ جزاء سقيك لنا، ولعل موسى عليه الصلاة والسلام إنما أجابها ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر بمعرفته لا طمعاً في الأجر، بل روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاماً فامتنع عنه وقال‏:‏ إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا حتى قال له شعيب عليه الصلاة والسلام‏:‏ هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا‏.‏ هذا وأن كل من فعل معروفاً فأهدي بشيء لم يحرم أخذه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين‏}‏ يريد فرعون وقومه‏.‏

‏{‏قَالَتْ إِحْدَاهُمَا‏}‏ يعني التي استدعته‏.‏ ‏{‏ياأبت استأجره‏}‏ لرعي الغنم‏.‏ ‏{‏إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الأمين‏}‏ تعليل شائع يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار وللمبالغة فيه، جعل ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ اسماً وذكر الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه امرؤ مجرب معروف‏.‏ روي أن شعيباً قال لها وما أعلمك بقوته فذكرت إقلال الحجر وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه‏.‏

‏{‏قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى‏}‏ أي تأجر نفسك مني أو تكون لي أجيراً، أو تثيبني من أجرك الله‏.‏ ‏{‏ثَمَانِىَ حِجَجٍ‏}‏ ظرف على الأولين ومفعول به على الثالث بإضمار مضاف أي رعية ثماني حجج‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً‏}‏ عملت عشر حجج‏.‏ ‏{‏فَمِنْ عِندِكَ‏}‏ فإتمامه من عندك تفضلاً لا من عندي إلزاما عليك‏.‏ وهذا استدعاء العقد لا نفسه، فلعله جرى على أجرة معينة وبمهر آخر أو برعية الأجل الأول ووعد له أن يوفي الأخير إن تيسر له قبل العقد، وكانت الأغنام للمزوجة مع أنه يمكن اختلاف الشرائع في ذلك‏.‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ‏}‏ بإلزام إتمام العشر أو المناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال، واشتقاق المشقة من الشق فإن ما يصعب عليك يشق عليك اعتقادك في إطاقته ورأيك في مزاولته‏.‏ ‏{‏سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصالحين‏}‏ في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالمعاهدة‏.‏

‏{‏قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ‏}‏ أي ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه‏.‏ ‏{‏أَيَّمَا الأجلين‏}‏ أطولهما أو أقصرهما‏.‏ ‏{‏قُضِيَتِ‏}‏ وفيتك إياه‏.‏ ‏{‏فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ‏}‏ لا تعتدي علي بطلب الزيادة فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان، أو فلا أكون متعدياً بترك الزيادة عليه كقولك لا إثم علي، وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي‏.‏ وقرئ ‏{‏أَيَّمَا‏}‏ كقوله‏:‏

تَنَظَّرْت نَصْراً وَالسماكين أَيُّمَا *** عَليَّ مِنَ الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُه

وأي الأجلين ما قضيت فتكون ما مزيدة لتأكيد الفعل أي‏:‏ أي الأجلين جردت عزمي لقضائه، وعدوان بالكسر‏.‏ ‏{‏والله على مَا نَقُولُ‏}‏ من المشارطة‏.‏ ‏{‏وَكِيلٌ‏}‏ شاهد حفيظ‏.‏

‏{‏فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ‏}‏ بامرأته‏.‏ روي أنه قضى أقصى الأجلين ومكث بعد ذلك عنده عشراً أخرى ثم عزم على الرجوع‏.‏ ‏{‏آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً‏}‏ أبصر من الجهة التي تلي الطور‏.‏ ‏{‏قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّى ءانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي ءَاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ‏}‏ بخبر الطريق‏.‏ ‏{‏أَوْ جَذْوَةٍ‏}‏ عود غليظ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن‏.‏

قال‏:‏

بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنُ لَهَا *** جَزلَ الجذى غَيْرَ خوارٍ وَلاَ دَعِرٍ

وقال آخر‏:‏

وَأَلْقَى عَلى قَبس مِنْ النَّارِ جَذْوَة *** شَدِيداً عَلَيْهِ حَرُّهَا وَالتِهَابُهَا

ولذلك بينه بقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ النار‏}‏ وقرأ عاصم بالفتح وحمزة بالضم وكلها لغات‏.‏ ‏{‏لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ‏}‏ تستدفئون بها‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أتاها نُودِىَ مِن شَاطِئ الواد الأيمن‏}‏ أتاه النداء من الشاطئ الأيمن لموسى‏.‏ ‏{‏فِى البقعة المباركة‏}‏ متصل بالشاطئ أو صلة ل ‏{‏نُودِىَ‏}‏‏.‏ ‏{‏مِنَ الشجرة‏}‏ بدل من شاطئ بدل الاشتمال لأنها كانت ثابتة على الشاطئ‏.‏ ‏{‏أَن يا موسى‏}‏ أي يا موسى‏.‏ ‏{‏إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين‏}‏ هذا وإن خالف ما في «طه» «والنمل» لفظاً فهو طبقه في المقصود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 42‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ ‏(‏31‏)‏ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏33‏)‏ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏34‏)‏ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏36‏)‏ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏38‏)‏ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ‏}‏ أي فألقاها فصارت ثعباناً واهتزت ‏{‏فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ‏}‏‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهَا جَانٌّ‏}‏ في الهيئة والجثة أو في السرعة‏.‏ ‏{‏ولى مُدْبِراً‏}‏ منهزماً من الخوف‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يُعَقّبْ‏}‏ ولم يرجع‏.‏ ‏{‏يَا موسى‏}‏ نودي يا موسى‏.‏ ‏{‏أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين‏}‏ من المخاوف، فإنه لا ‏{‏يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون‏}‏ ‏{‏اسلك يَدَكَ فِى جَيْبِكَ‏}‏ أدخلها‏.‏ ‏{‏تَخْرُجُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ‏}‏ عيب‏.‏ ‏{‏واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ‏}‏ يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريراً لغرض آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جراءة ومبدأ لظهور معجزة، ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فإنه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه‏.‏ ‏{‏مِنَ الرهب‏}‏ من أجل الرهب أي إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلداً وضبطاً لنفسك‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر بضم الراء وسكون الهاء، وقرئ بضمهما، وقرأ حفص بالفتح والسكون والكل لغات‏.‏ ‏{‏فَذَانِكَ‏}‏ إشارة إلى العصا واليد، وشدده ابن كثير وأبو عمرو ورويس‏.‏ ‏{‏برهانان‏}‏ حجتان وبرهان فعلان لقولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من قولهم بره الرجل إذا ابيض، ويقال برهاء وبرهرهة للمرأة البيضاء وقيل فعلال لقولهم برهن‏.‏ ‏{‏مِن رَبّكَ‏}‏ مرسلاً بهما‏.‏ ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ‏}‏ فكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ‏}‏ بها‏.‏

‏{‏وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً‏}‏ معيناً وهو في الأصل اسم ما يعان به كالدفء، وقرأ نافع «رداً» بالتخفيف‏.‏ ‏{‏يُصَدّقُنِى‏}‏ بتخليص الحق وتقرير الحجة وتزييف الشبهة‏.‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ‏}‏ ولساني لا يطاوعني عند المحاجة، وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب، وقرأ عاصم وحمزة ‏{‏يُصَدّقُنِى‏}‏ بالرفع على أنه صفة والجواب محذوف‏.‏

‏{‏قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ‏}‏ سنقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور، ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد‏.‏ ‏{‏وَنَجْعَلَ لَكُمَا سلطانا‏}‏ غلبة أو حجة‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا‏}‏ باستيلاء أو حجاج‏.‏ ‏{‏بئاياتنا‏}‏ متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا، أو ب ‏{‏نَجْعَلِ‏}‏ أي نسلطكما بها، أو بمعنى «لا يصلون» أي تمتنعون منهم، أو قسم جوابه «لا يصلون»، أو بيان ل ‏{‏الغالبون‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون‏}‏ بمعنى أنه صلة لما بينه أو صلة له على أن اللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ موسى بئاياتنا بينات قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى‏}‏ سحر تختلقه لم يفعل قبل مثله، أو سحر تعمله ثم تفتريه على الله؛ أو سحر موصوف بالإِفتراء كسائر أنواع السحر‏.‏

‏{‏وَمَا سَمِعْنَا بهذا‏}‏ يعنون السحر أو ادعاء النبوة‏.‏ ‏{‏فِي ءَابَآئِنَا الأَوَّلِينَ‏}‏ كائناً في أيامهم‏.‏

‏{‏وَقَالَ موسى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ‏}‏ فيعلم أني محق وأنتم مبطلون‏.‏ وقرأ ابن كثير «قال» بغير واو لأنه قال ما قاله جواباً لمقالهم، ووجه العطف أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد‏.‏ ‏{‏وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار‏}‏ العاقبة المحمودة فإن المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأنها خلقت مجازاً إلى الآخرة، والمقصود منها بالذات هو الثواب والعقاب إنما قصد بالعرض‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏يَكُونَ‏}‏ بالياء‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ لا يفوزون بالهدى في الدنيا وحسن العاقبة في العقبى‏.‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى‏}‏ نفى علمه بإله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه، ولذلك أمر ببناء الصرح ليصعد إليه ويتطلع على الحال بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين فاجعل لّي صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إلى إله موسى‏}‏ كأنه توهم أنه لو كان لكان جسماً في السماء يمكن الترقي إليه ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنّي لأظُنُّهُ مِنَ الكاذبين‏}‏ أو أراد أن يبني له رصداً يترصد منه أوضاع الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول وتبدل دولة، وقيل المراد بنفي العلم نفي المعلوم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض‏}‏ فإن معناه بما ليس فيهن، وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها لك انتفاؤها، ولا كذلك العلوم الانفعالية، قيل أول من اتخذ الآجر فرعون ولذلك أمر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة مع ما فيه من تعظم؛ ولذلك نادى هامان باسمه ب ‏{‏يا‏}‏ في وسط الكلام‏.‏ ‏{‏واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق‏}‏ بغير استحقاق‏.‏ ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ‏}‏ بالنشور‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم‏.‏

‏{‏فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم‏}‏ كما مر بيانه، وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ واستحقار للمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏{‏والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏{‏فانظر‏}‏ يا محمد‏.‏ ‏{‏كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين‏}‏ وحذر قومك عن مثلها‏.‏

‏{‏وجعلناهم أَئِمَّةً‏}‏ قدوة للضلال بالحمل على الإِضلال، وقيل بالتسمية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا‏}‏ أو بمنع الألطاف الصارفة عنه‏.‏ ‏{‏يَدْعُونَ إِلَى النار‏}‏ إلى موجباتها من الكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ بدفع العذاب عنهم‏.‏

‏{‏وأتبعناهم فِى هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً‏}‏ طرداً عن الرحمة، أو لعن اللاعنين يلعنهم الملائكة والمؤمنون‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين‏}‏ من المطرودين، أو ممن قبح وجوههم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 54‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏43‏)‏ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏44‏)‏ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏45‏)‏ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏49‏)‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏51‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ‏(‏53‏)‏ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ التوراة‏.‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى‏}‏ أقوام نوح وهود وصالح ولوط‏.‏ ‏{‏بَصَائِرَ لِلنَّاسِ‏}‏ أنواراً لقلوبهم تتبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل‏.‏ ‏{‏وهدى‏}‏ إلى الشرائع التي هي سبل الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ لأنهم لو عملوا بها نالوا رحمة الله سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر، وقد فسر بالإِرادة وفيه ما عرفت‏.‏

‏{‏وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى‏}‏ يريد الوادي، أو الطور فإنه كان في شق الغرب من مقام موسى، أو الجانب الغربي منه والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي ما كنت حاضراً‏.‏ ‏{‏إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر‏}‏ إذ أوحينا إليه الأمر الذي أردنا تعريفه‏.‏ ‏{‏وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين‏}‏ للوحي إليه أو على الوحي إليه، وهم السبعون المختارون الميقات، والمراد الدلالة على أن إخباره عن ذلك من قبيل الإِخبار عن المغيبات التي لا تعرف إِلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله‏:‏

‏{‏وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر‏}‏ أي ولكنا أوحينا إليك لأنا أنشأنا قروناً مختلفة بعد موسى فتطاولت عليهم المدد، فحرفت الأخبار وتغيرت الشرائع واندرست العلوم، فحذفت المستدرك وأقام سببه مقامه‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ ثَاوِياً‏}‏ مقيماً‏.‏ ‏{‏فِى أَهْلِ مَدْيَنَ‏}‏ شعيب والمؤمنين به‏.‏ ‏{‏تَتْلُو عَلَيْهِمْ‏}‏ تقرأ عليهم تعلماً منهم‏.‏ ‏{‏ءاياتنا‏}‏ التي فيها قصتهم‏.‏ ‏{‏وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ‏}‏ إياك ومخبرين لك بها‏.‏

‏{‏وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا‏}‏ لعل المراد به وقت ما أعطاه التوراة وبالأول حين ما استنبأه لأنهما المذكوران في القصد‏.‏ ‏{‏ولكن‏}‏ علمناك‏.‏ ‏{‏رَحْمَةً مّن رَّبّكَ‏}‏ وقرئت بالرفع على هذه ‏{‏رَحْمَةً مّن رَبِّكَ‏}‏‏.‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً‏}‏ متعلق بالفعل المحذوف‏.‏ ‏{‏مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة، أو بينك وبين إسماعيل، على أن دعوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ يتعظون‏.‏

‏{‏وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً‏}‏ ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ الأولى امتناعية والثانية تحضيضية واقعة في سياقها، لأنها إنما أجيبت بالفاء تشبيهاً لها بالأمر مفعول يقولوا المعطوف على تصيبهم بالفاء المعطية معنى السببيّة المنبهة على أن القول هو المقصود بأن يكون سبباً لانتفاء ما يجاب به، وأنه لا يصدر عنهم حتى تلجئهم العقوبة والجواب محذوف والمعنى‏:‏ لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ربنا هلا أرسلت إلينا رسولاً يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين، ما أرسلناك أي إنما أرسلناك قطعاً لعذرهم وإلزاماً للحجة عليهم‏.‏ ‏{‏فَنَتَّبِعَ ءاياتك‏}‏ يعني الرسول المصدق بنوع من المعجزات‏.‏ ‏{‏وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ موسى‏}‏ من الكتاب جملة واليد والعصا وغيرها اقتراحاً وتعنتاً‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ‏}‏ يعني أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم كفرة زمان موسى، أو كان فرعون عربياً من أولاد عاد‏.‏ ‏{‏قَالُواْ سَاحِران‏}‏ يعني موسى وهارون، أو موسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏وَإِن تَظَاهَرَا‏}‏ تعاوناً بإظهار تلك الخوارق أو بتوافق الكتابين‏.‏ وقرأ الكوفيون «سحران» بتقدير مضاف أو جعلهما سحرين مبالغة، أو إسناد تظاهرهما إلى فعلهما دلالة على سبب الإِعجاز‏.‏ وقرئ ظاهراً على الإِدغام‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كافرون‏}‏ أي بكل منهما أو بكل الأنبياء‏.‏

‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا‏}‏ مما أنزل على موسى وعلى محمد صلى الله عليه وسلم وإضمارهما لدلالة المعنى، وهو يؤيد أن المراد بالساحرين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ إنا ساحران مختلفان، وهذا من الشروط التي يراد بها الإِلزام والتبكيت، ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم‏.‏

‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ‏}‏ دعاءك إِلى الإِتيان بالكتاب الأهدى فحذف المفعول للعلم به، ولأن فعل الاستجابة يعدى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي، فإذا عدي إليه حذف الدعا غالباً كقوله‏:‏

وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا *** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

‏{‏فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ إذ لو اتبعوا حجة لأتوا بها‏.‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ‏}‏ استفهام بمعنى النفي‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله‏}‏ في موضع الحال للتأكيد أو التقييد، فإن هوى النفس قد يوافق الحق‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول‏}‏ أتبعنا بعضه بعضاً في الإِنزال ليتصل التذكير، أو في النظم لتقرر الدعوة بالحجة والمواعظ بالمواعيد والنصائح بالعبر‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ فيؤمنون ويطيعون‏.‏

‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ‏}‏ نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وقيل في أربعين من أهل الانجيل اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانية من الشام، والضمير في ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ للقرآن كالمستكن في‏:‏

‏{‏وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءَامَنَّا بِهِ‏}‏ أي بأنه كلام الله تعالى‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا‏}‏ استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به‏.‏ ‏{‏إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ‏}‏ استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذٍ، وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإِسلام قبل نزول القرآن، أو تلاوته عليهم باعتقادهم صحته في الجملة‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ‏}‏ مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن‏.‏ ‏{‏بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ بصبرهم وثباتهم على الإِيمانين، أو على الإِيمان بالقرآن قبل النزول وبعده، أو على أذى المشركين ومن هاجرهم من أهل دينهم‏.‏ ‏{‏وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة‏}‏ ويدفعون بالطاعة المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أتبع السيئة الحسنة تمحها ‏"‏ ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ في سبيل الخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 69‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ‏(‏55‏)‏ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ‏(‏58‏)‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ‏(‏59‏)‏ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏60‏)‏ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏61‏)‏ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ‏(‏63‏)‏ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ‏(‏64‏)‏ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏65‏)‏ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏66‏)‏ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ‏(‏67‏)‏ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏68‏)‏ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ تكرماً‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ للاغين‏.‏ ‏{‏لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ‏}‏ متاركة لهم وتوديعاً، أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه‏.‏ ‏{‏لاَ نَبْتَغِى الجاهلين‏}‏ لا نطلب صحبتهم ولا نريدها‏.‏

‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ لا تقدر على أن تدخلهم في الإِسلام‏.‏ ‏{‏ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاءُ‏}‏ فيدخله في الإِسلام‏.‏ ‏{‏وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏ بالمستعدين لذلك‏.‏ والجمهور على «أنها نزلت في أبي طالب فإنه لما احتضر جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، قال‏:‏ يا ابن أخي قد علمت إنك لصادق ولكن أكره أن يقال خدع عند الموت»

‏{‏وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا‏}‏ نخرج منها‏.‏ نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً‏}‏ أو لم نجعل مكانهم حرماً ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه يتناحر العرب حوله وهم آمنون فيه‏.‏ ‏{‏يجبى إِلَيْهِ‏}‏ يحمل إليه ويجمع فيه، وقرأ نافع ويعقوب في رواية بالتاء‏.‏ ‏{‏ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ من كل أوب‏.‏ ‏{‏رّزْقاً مّن لَّدُنَّا‏}‏ فإذا كان هذا حالهم وهم عبدة الأصنام فكيف نعرضهم للتخوف والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموه، وقيل إنه متعلق بقوله ‏{‏مّن لَّدُنَّا‏}‏ أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم لا يعلمون إذ لو علموا لما خافوا غيره، وانتصاب ‏{‏رِزْقاً‏}‏ على المصدر من معنى ‏{‏يجبى‏}‏، أو حال من ال ‏{‏ثمرات‏}‏ لتخصصها بالإِضافة، ثم بين أن الأمر بالعكس فإنهم أحقاء بأن يخافوا من بأس الله على ما هم عليه بقوله‏:‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا‏}‏ أي وكم من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في الأمن وخفض العيش حتى أشروا فدمر الله عليهم وخرب ديارهم‏.‏ ‏{‏فَتِلْكَ مساكنهم‏}‏ خاوية‏.‏ ‏{‏لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ من السكنى إذ لا يسكنها إلا المارة يوماً أو بعض يوم، أو لا يبقى من يسكنها من شؤم معاصيهم‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين‏}‏ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم، وانتصاب ‏{‏مَعِيشَتَهَا‏}‏ بنزع الخافض أو بجعلها ظرفاً بنفسها كقولك‏:‏ زيد ظني مقيم، أو بإضمار زمان مضاف إليها أو مفعولاً على تضمين بطرت معنى كفرت‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ‏}‏ وما كانت عادته‏.‏

‏{‏مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا‏}‏ في أصلها التي هي أعمالها، لأن أهلها تكون أفطن وأنبل‏.‏ ‏{‏رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ لإِلزام الحجة وقطع المعذرة‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون‏}‏ بتكذيب الرسل والعتو في الكفر‏.‏

‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مّن شَئ‏}‏ من أسباب الدنيا‏.‏ ‏{‏فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا‏}‏ تتمتعون وتتزينون به مدة حياتكم المنقضية‏.‏ ‏{‏وَمَا عِندَ الله‏}‏ وهو ثوابه‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ في نفسه من ذلك لأنه لذة خاصة وبهجة كاملة‏.‏ ‏{‏وأبقى‏}‏ لأنه أبدى‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة‏.‏

‏{‏أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً‏}‏ وعداً بالجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود‏.‏ ‏{‏فَهُوَ لاَقِيهِ‏}‏ مدركه لا محالة لامتناع الخلف في وعده، ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية‏.‏ ‏{‏كَمَن مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا‏}‏ الذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب بالتحسر على الانقطاع‏.‏ ‏{‏ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين‏}‏ للحساب أو العذاب، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتراخي في الزمان أو الرتبة، وقرأ نافع وابن عامر في رواية والكسائي ‏{‏ثُمَّ هُوَ‏}‏ بسكون الهاء تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وهذه الآية كالنتيجة للتي قبلها ولذلك رتبت عليها بالفاء‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ‏}‏ عطف على يوم القيامة أو منصوب باذكر‏.‏ ‏{‏فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي، فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما‏.‏

‏{‏قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ بثبوت مقتضاه وحصول مؤداه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ وغيره من آيات الوعيد‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا هَؤُلاءِ الذين أَغْوَيْنَا‏}‏ أي ‏{‏هَؤُلاء الذين‏}‏ أغويناهم فحذف الراجع إلى الموصول‏.‏ ‏{‏أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا‏}‏ أي ‏{‏أغويناهم‏}‏ فغووا غياً مثل ما غوينا، وهو استئناف للدلالة على أنهم غووا باختيارهم وأنهم لم يفعلوا بهم إلا وسوسة وتسويلاً، ويجوز أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ صفة و‏{‏أغويناهم‏}‏ الخبر لأجل ما اتصل به فإفادة زيادة على الصفة وهو إن كان فضلة لكنه صار من اللوازم‏.‏ ‏{‏تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ‏}‏ منهم ومما اختاره من الكفر هوى منهم، وهو تقرير للجملة المتقدمة ولذلك خلت عن العاطف وكذا‏.‏ ‏{‏مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ‏}‏ أي ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواءهم‏.‏ وقيل ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية متصلة ب ‏{‏تَبَرَّأْنَا‏}‏ أي تبرأنا من عبادتهم إيانا‏.‏

‏{‏وَقِيلَ ادعوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ‏}‏ من فرط الحيرة‏.‏ ‏{‏فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ‏}‏ لعجزهم عن الإِجابة والنصرة‏.‏ ‏{‏وَرَأَوُاْ العذاب‏}‏ لازماً بهم‏.‏ ‏{‏لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ‏}‏ لوجه من الحيل يدفعون به العذاب، أو إلى الحق لما رأوا العذاب ‏{‏لَوْ‏}‏ للتمني أي تمنوا أنهم كانوا مهتدين‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين‏}‏ عطف على الأول فإنه تعالى يسأل أولاً عن إشراكهم به ثم عن تكذيبهم الأنبياء‏.‏

‏{‏فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء يَوْمَئِذٍ‏}‏ فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم، وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يقبض ويرد عليه من خارج فإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره، والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل أو ما يعمها وغيرها، فإذا كانت الرسل يتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول ويفوضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال من أممهم، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء‏.‏

‏{‏فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة والعلم بأنه مثله في العجز‏.‏

‏{‏فَأَمَّا مَن تَابَ‏}‏ من الشرك‏.‏ ‏{‏وَآمَنَ وَعَمِلَ صالحا‏}‏‏.‏ وجمع بين الإِيمان والعمل الصالح‏.‏ ‏{‏فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين‏}‏ عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام، أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح‏.‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ‏}‏ لا موجب عليه ولا مانع له‏.‏ ‏{‏مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة‏}‏ أي التخير كالطيرة بمعنى التطير، وظاهرة نفي الاختيار عنهم رأساً والأمر كذلك عند التحقيق، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، وقيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف، ويؤيده ما روي أنه نزل في قولهم ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ وقيل ‏{‏مَا‏}‏ موصولة مفعول ل ‏{‏يختار‏}‏ والراجع إليه محذوف والمعنى‏:‏ ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير والصلاح‏.‏ ‏{‏سبحان الله‏}‏ تنزيه له أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار‏.‏ ‏{‏وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ عن إشراكهم أو مشاركة ما يشركونه‏.‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ‏}‏ كعداوة الرسول وحقده‏.‏ ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ كالطعن فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 88‏]‏

‏{‏وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏70‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏74‏)‏ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏75‏)‏ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ‏(‏76‏)‏ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏77‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏78‏)‏ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏79‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ‏(‏80‏)‏ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ‏(‏81‏)‏ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏82‏)‏ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏83‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏85‏)‏ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏87‏)‏ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الله‏}‏ المستحق للعبادة‏.‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ لا أحد يستحقها إلا هو‏.‏ ‏{‏لَهُ الحمد فِى الأولى والآخرة‏}‏ لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم ‏{‏الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن‏}‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ‏}‏ ابتهاجاً بفضله والتذاذاً بحمده‏.‏ ‏{‏وَلَهُ الحكم‏}‏ القضاء النافذ في كل شيء‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ بالنشور‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اليل سَرْمَداً‏}‏ دائماً من السرد وهو المتابعة والميم مزيدة كميم دلامص‏.‏ ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ بإِسكان الشمس تحت الأرض أو تحريكها حول الأفق الغائر‏.‏ ‏{‏مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ‏}‏ كان حقه هل إله فذكر ب ‏{‏مِنْ‏}‏ على زعمهم أن غيره آلهة‏.‏ وعن ابن كثير «بضئاء» بهمزتين‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَسْمَعُونَ‏}‏ سماع تدبر واستبصار‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ باسكانها في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق‏.‏ ‏{‏مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ‏}‏ استراحة عن متاعب الأشغال، ولعله لم يصف الضياء بما يقابله لأن الضوء نعمة في ذاته مقصود بنفسه ولا كذلك الليل، ولأن منافع الضوء أكثر مما يقابله ولذلك قرن ‏{‏أَفَلاَ تَسْمَعُونَ‏}‏ و‏{‏باليل‏}‏‏.‏ ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ لأن استفادة العقل من السمع اكثر من استفادته من البصر‏.‏

‏{‏وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ في الليل ‏{‏وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ في النهار بأنواع المكاسب‏.‏ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإِشراك به، أو الأول لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تشه وهوى‏.‏

‏{‏وَنَزَعْنَا‏}‏ وأخرجنا‏.‏ ‏{‏مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا‏}‏ وهو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه‏.‏ ‏{‏فَقُلْنَا‏}‏ للأمم‏.‏ ‏{‏هَاتُواْ برهانكم‏}‏ على صحة ما كنتم تدينون به‏.‏ ‏{‏فَعَلِمُواْ‏}‏ حينئذ‏.‏ ‏{‏أَنَّ الحق لِلَّهِ‏}‏ في الألوهية لا يشاركه فيها أحد‏.‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم‏}‏ وغاب عنهم غيبة الضائع‏.‏ ‏{‏مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ من الباطل‏.‏

‏{‏إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى‏}‏ كان ابن عمه يصهر بن قاهث بن لاوي وكان ممن آمن به‏.‏ ‏{‏فبغى عَلَيْهِمْ‏}‏ فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره، أو تكبر عليهم أو ظلمهم‏.‏ قيل وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل، أو حسدهم لما روي أنه قال لموسى عليه السلام‏:‏ لك الرسالة ولهارون الحبورة وأنا في غير شيء إلى متى أصبر قال موسى هذا صنع الله‏.‏ ‏{‏وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ‏}‏ من الأموال المدخرة‏.‏

‏{‏مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ‏}‏ مفاتيح صناديقه جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به، وقيل خزائنه وقياس واحدها المفتح‏.‏ ‏{‏لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ‏}‏ خبر إن والجملة صلة وهو ثاني مفعولي آتى، ونائبه الحمل إذا أثقله حتى أماله، والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة واعصوصبوا اجتمعوا‏.‏ وقرئ «لينوء» بالياء على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ‏}‏ منصوب ب «تنوء»‏.‏ ‏{‏لاَ تَفْرَحْ‏}‏ لا تبطر والفرح بالدنيا مذموم مطلقاً لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح كما قيل‏:‏

أَشد الغَمَّ عِنْدِي فِي سُرُور *** تَيَقّن عَنْهُ صَاحِبهُ انتِقَالاَ

ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم‏}‏، وعلل النهي ها هنا بكونه مانعاً من محبة الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين‏}‏ أي بزخارف الدنيا‏.‏

‏{‏وابتغ فِيمَا ءاتَاكَ الله‏}‏ من الغنى‏.‏ ‏{‏الدار الاخرة‏}‏ بصرفه فيما يوجبها لك فإن المقصود منه أن يكون وصلة إليها‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَنسَ‏}‏ ولا تترك ترك المنسي‏.‏ ‏{‏نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا‏}‏ وهو أن تحصل بها آخرتك وتأخذ منها ما يكفيك‏.‏ ‏{‏وَأَحْسِنْ‏}‏ إلى عباد الله‏.‏ ‏{‏كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ‏}‏ فيما أنعم الله عليك‏.‏ وقيل ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏ بالشكر والطاعة ‏{‏كَمَا أَحْسَنَ‏}‏ إليك بالإِنعام‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الأرض‏}‏ بأمر يكون علة للظلم والبغي، نهي له عما كان عليه من الظلم والبغي‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين‏}‏ لسوء أفعالهم‏.‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى‏}‏ فضلت به على الناس واستوجبت به التفوق عليهم بالجاه والمال، و‏{‏على عِلْمٍ‏}‏ في موضع الحال وهو علم التوراة وكان أعلمهم بها، وقيل هو الكيمياء وقيل علم التجارة والدهقنة وسائر المكاسب، وقيل العلم بكنوز يوسف، و‏{‏عِندِى‏}‏ صفة له أو متعلق ب ‏{‏أُوتِيتُهُ‏}‏ كقولك‏:‏ جاز هذا عندي أي في ظني واعتقادي‏.‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً‏}‏ تعجب وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة وسمعه من حفاظ التواريخ، أو رد لادعائه للعلم وتعظمه به بنفي هذا العلم عنه أي أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعى‏.‏ ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُسْئَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون‏}‏ سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليها أو معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة، كأنه لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا أقوى منه واغنى أكد ذلك بأن بين أنه لم يكن مطلعاً على ما يخصهم بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم معاقبهم عليها لا محالة‏.‏

‏{‏فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ‏}‏ كما قيل إنه خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه‏.‏

‏{‏قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا‏}‏ على ما هو عادة الناس من الرغبة‏.‏ ‏{‏ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارون‏}‏ تمنوا مثله لا عينه حذراً عن الحسد‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ‏}‏ من الدنيا‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم‏}‏ بأحوال الآخرة للمتمنين‏.‏ ‏{‏وَيْلَكُمْ‏}‏ دعاء بالهلاك استعمل للزجر عما لا يرتضى‏.‏ ‏{‏ثَوَابُ الله‏}‏ في الآخرة‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ لّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صالحا‏}‏ مما أوتي قارون بل من الدنيا وما فيها‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُلَقَّاهَا‏}‏ الضمير فيه للكلمة التي تكلم بها العلماء أو لل ‏{‏ثَوَابَ‏}‏، فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو للإيمان والعمل الصالح فإنهما في معنى السيرة والطريقة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الصابرون‏}‏ على الطاعات وعن المعاصي‏.‏

‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض‏}‏ روي أنه كان يؤذي موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة، فصالحه عن كل ألف على واحد فحسبه فاستكثره، فعمد إلى أن يفضح موسى بين بني إسرائيل ليرفضوه، فبرطل بغية لترميه بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيباً فقال‏:‏ من سرق قطعناه، ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصناً رجمناه، فقال قارون ولو كنت قال‏:‏ ولو كنت، قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت، فناشدها موسى عليه السلام بالله أن تصدق فقالت‏:‏ جعل لي قارون جعلاً على أن أرميك بنفسي، فخر موسى شاكياً منه إلى ربه فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فقال‏:‏ يا أرض خذيه فأخذته إلى ركبتيه، ثم قال خذيه إلى وسطه، ثم قال خذيه فأخذته إلى عنقه، ثم قال خذيه فخسفت به وكان قارون يتضرع إليه في هذه الأحوال فلم يرحمه، فأوحى الله إليه ما أفظك استرحمك مراراً فلم ترحمه، وعزتي وجلالي لو دعاني مرة لأجبته، ثم قال بنو إسرائيل‏:‏ إنما فعله ليرثه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله‏.‏ ‏{‏فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ‏}‏ أعوان مشتقة من فأوت رأسه إذا ميلته‏.‏ ‏{‏يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله‏}‏ فيدفعون عنه عذابه‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين‏}‏ الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع‏.‏

‏{‏وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ‏}‏ منزلته‏.‏ ‏{‏بالأمس‏}‏ منذ زمان قريب‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ‏}‏ ‏{‏يَبْسُطُ‏}‏ ‏{‏وَيَقْدِرُ‏}‏ بمقتضى مشيئته لا لكرامة تقتضي البسط ولا لهوان يوجب القبض، وويكأن عند البصريين مركب من «وي» للتعجب «وكأن» للتشبه والمعنى‏:‏ ما أشبه الأمر أن يبسط الرزق‏.‏ وقيل من «ويك» بمعنى ويلك «وأن» تقديره ويك اعلم أن الله‏.‏ ‏{‏لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا‏}‏ فلم يعطنا ما تمنينا‏.‏ ‏{‏لَخَسَفَ بِنَا‏}‏ لتوليده فينا ما ولده فيه فخسف بنا لأجله‏.‏ وقرأ حفص بفتح الخاء والسين‏.‏ ‏{‏وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون‏}‏ لنعمة الله أو المكذبون برسله وبما وعدوا لهم ثواب الآخرة‏.‏